2024/10/09 | 0 | 472
محاضرات عاشوراء 1446 المحاضرة الثانية - الفطرة .. معرفة الله
إن غاية وجود الإنسان هو معرفة الله, وإشراق نور الأسماء والصفات في قلبه, فقد فطر المولى عزّ وجلّ الإنسان على معرفته. فالفطرة هي معرفة الله, وهذه المعرفة هي أساس الدين وحقيقته وأوله. فالدين هو معرفة الله, وما يستتبع هذه المعرفة الأولية من عقائد وأعمال. فالإنسان موجود بين قوسي النزول بالفيض, والصعود بالحمد, وما الحياة الدنيا إلا لحظة بين المعرفة الأولية والفطرة, وبين التصديق بها وكمال النعمة بإشراق النور في قلب الإنسان, وتحقق معنى الخلافة الإلهية.
الفطرة التي خلق عليها الإنسان
(وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ).
لقد فطر المولى عزّ وجل الإنسان على معرفته, وكان الخطاب الإلهي على أرواح الناس, في ما يسمى عالم الذرّ , أو الخلق الأولي وخلق أرواحهم في عالم الملكوت, وقبل نزولها إلى الدنيا (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا), وأقرّت جميع أرواح البشر بربوبية الله عزّ وجل. فقبل أن ينزل الإنسان إلى عالم الدنيا, تمّ الفيض والنور الإلهي على أرواح العالمين, لتعرف وتقرّ بربوبية الله عزّ وجلّ.
فالفطرة التي خلق الإنسان عليها, هي معرفة الله عز وجل. وفي أحاديث أهل البيت عليهم السلام, فطرهم على معرفته وتوحيده , وهي آية الميثاق. فعن ابن مسكان، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: " فطرة الله التي فطر الناس عليها " قال: فطرهم على معرفته أنه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا - إذا سئلوا - من ربهم ولا من رازقهم.
الإشهاد في عالم الملكوت
إذاً التجلّي الأولى حدث على أرواح البشر قبل نزولهم إلى عالم الدنيا, حسب آية الميثاق. وإن كان يعبّر عنه في القرآن بصورة خطاب لفظي (ألست بربكم), ولكن ليس بالضرورة أن يكون خطاب لفظي لأن الإنسان في عالم الملكوت لم يكن له آلات السمع والبصر والدماغ والجهاز العصبي لكي يستمع إلى الصوت ويحلله. ولكن الخطاب كان بحسب قوانين عالم الملكوت لا عالم الملك, وكان خطاباً نورانيا, وإشهاداً حضورياً, ولذلك لم يكن هناك أي مجال للرفض أو التكذيب. بل معرفة حضورية لا لبس فيها ولا حجاب عن المعرفة (قالوا بلى شهدنا). فقول البشر (شهدنا) يدل أن المعرفة كانت شهودية عن طريق الروح نتيجة تجلّي نور العظمة الإلهية.
لذلك فإن المعرفة الحقيقية والتي تترك أثر على حياة الإنسان, هي المعرفة الروحية والقلبية. وإن الإنسان بمجرّد إزالة الكدورات عن القلب, وإزالة حب الدنيا, يتجلّى نور الحق في قلبه (قد أفلح من تزكى, وذكر اسم ربه فصلى). فحتى يصل الإنسان إلى معرفة الله والذكر القلبي, وتجلّي نور الحق في روحه, عليه أن يزيل الأغيار, ويطهّر البيت من الأصنام.
الإشهاد في عالم الدنيا
إنّ هذا الإشهاد الإلهي والخطاب في آية الميثاق, ليس خطاباً لفظياً كما هو الحال في البعد المادي في عالم الدنيا, بل خطاب نوراني في عالم الملكوت على أرواح البشر. فالإشهاد هوعلم حضوري وهو من خصائص الروح, والذي لا يحتاج إلى واسطة لفظية. ولقد أقرّت أرواح البشر بهذا الميثاق, وبربوبية الله عزّ وجل, وعرفت ربها.
إن هذه المعرفة والإقرار بربوبية الله عز وجلّ, ليس فقط في عالم الملكوت وقبل نزول الإنسان إلى عالم الدنيا, أي أنه لم يكن محدود ببعد زمني ومكاني كما هو الحال في عالم الدنيا, بلّ إنّ هذا الإقرار بالربوبية مستمرّ حتى في عالم الدنيا, وذلك لأنّ عالم الملكوت محيطٌ بالدنيا, وكذلك لاستمرار النور والفيض الإلهي وعدم إنقطاعه. فالأرواح, من جهة ملكوتية, مقرّة بربوبية الله (واستيقنتها أنفسهم). فالحجّة الإلهية مستمرّة على البشر بإقرار أرواحهم بربوبيته.
والإشهاد الإلهي مستمر باستمرار الفيض الإلهي والنعم, فبكل نعمه تحصل للإنسان, وكل بلاء يحدث عليه من حياة أو موت, أو رزق أو تدبير, فإن الإشهاد الحضوري, والخطاب الإلهي يحدث على روح الإنسان (ألست بربكم). فكل يوم وكل لحظة يعيشها الإنسان, فإنّ الخطاب والإشهاد الإلهي بربوبيته عزّ وجلّ مستمر. وهذا الإشهاد لا يقبل اللبس, ولا يحتاج إلى لغة وأدلة عقلية, فهو إشهاد على الروح وعلم حضوري.
الغفلة عن الميثاق
إن الروح الإنسانية تقرّ بربوبية الخالق قبل تعلّقها بالدنيا (قالوا بلى شهدنا). فالروح الإنسانية لكلّ مخلوق تقرّ بربوبية الله من بعد ملكوتي. ولكنّ الروح قد تغفل عن هذا الإقرار نتيجة كدورة التعلّق بالدنيا وحبها, ونتيجة الرين الذي يحدث على القلب بسبب الذنوب والفساد, حتى يصل إلى مرحة من الظلمة بأن لو أخرج يده لم يكد يراها (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) سورة النور.
فعندما تتعلق الروح بحب الدنيا, وتعلوا كدورات الذنوب على القلب, يصبح الإنسان غافلاً عن هذا الإشهاد, ولا يرى نور الفيض والرحمة الإلهية , فتعمى روحه عن رؤية نور الملكوت, فتكذّب الروح بخالقها, ويشرك الإنسان بربه كنتيجة طبيعية لعمى الأرواح (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) سورة الحج.
فالنور والفيض والإشهاد الإلهي لا ينقطع أبداً عن جميع المخلوقات (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ). فغفلة الإنسان عن معرفة الله وعن ذكر الله, وعن هذا الإشهاد والعلم الحضوري هو بسبب التعلق بالدنيا وحب الدنيا. وبفدر تزكية النفس يستطيع الإنسان أن يرى النور ويصل إلى العلم الحضوري (قد أفلح من تزكى, وذكر اسم ربه فصلى).
والإشهاد الأولى حدث في عالم الملكوت, بمجرّد النفخ (ونفخت فيه من روحي), وقبل تعلّق القلب بالدنيا. ولذلك هذا الإشهاد حجّة على الإنسان. ويولد الإنسان في عالم الدنيا على هذه الفطرة, قبل أن تنحرف روحه وتتعلّق بالدنيا. وبقدر تطهير القلب وتزكيته يصل الإنسان إلى معرفة الله وذكر الله, وبالتالي إلى الإيمان بالدين. وبقدر كدورة القلب وتعلّقه بالدنيا, تظلم روح الإنسان, ويصل إلى الإنكار والشرك بالله.
الدين هو معرفة الله
حقيقة الدين هو معرفة الله, والمقصود ليس فقط المعرفة الحصولية والعقلية والإستدلالية, وليس حفظ المصطلحات والأسماء الواردة في الآيات والروايات, بل حقيقة الدين إشراق نور الله في قلب الإنسان, والمعرفة الحضورية والشهودية.
يقول أمير المؤمنين علي "ع": (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ،). فأول الدين معرفة الله, وهي المعرفة الحضورية, والتي فطر المولى عزّ وجلّ البشر عليها. أي في خلقة الإنسان الأولية, وحدث الإشهاد عند خلق الأرواح في عالم الملكوت, وقبل تنزّل الأرواح من عالم الملكوت إلى عالم الملك. ومن ثمّ نزلت الأرواح بحسب قوانين الإنزال وبحسب أسباب وسنن وقوانين عالم الدنيا. فالنزول حدث بحسب الأبعاد الزمانية والمكانية, وحسب قوانين عالم الدنيا, من إنتقال النطف عبر الأجيال, إلى حين خلق الإنسان من أب وأم, وخروجه إلى عالم الدنيا.
فالنزول من عالم الملك إلى عالم الدنيا لابد وأن يأخذ بقوانين وحسابات عالم الدنيا, مثل نزول الكتاب, من صورته النورانية في عالم الملكوت, إلى القرآن في صورة آيات وكتابات وقصص وأحكام وتشريعات بحسب قوانين وأسباب عالم الملك.
جديد الموقع
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين